كيف تعزز العلاقات الاجتماعية والتقاليد الأصيلة جودة الحياة وأثرها على الصحة النفسية
النوع : اجتماعي
حديثي إليكم اليوم ليس فقط نابعا من دراستي الأكاديمية في مجال الصحة النفسية وإنما أيضا لمسته عن قرب من خلال تعاملي مع بعض فئات المجتمع الأسري في المملكة العربية والسعودية ومقارنتها ببعض الشعوب الأخرى في في خضم الحياة وتسارع وتيرة الحياة العصرية وما تفرضه من تحديات، يبرز الاهتمام بالصحة النفسية كأحد أهم الأولويات على الصعيدين العالمي والمحلي. والمملكة العربية السعودية، بتركيبتها الاجتماعية الفريدة وثقافتها الغنية، تقدم نموذجاً مميزاً يوضح الدور الحيوي الذي تلعبه العلاقات الاجتماعية والوشائج الأسرية القوية كخط دفاع أولي وحصن منيع يدعم الرفاه النفسي لأفراد المجتمع.
الأسرة: الركيزة الأساسية للصحة النفسية
تُعتبر الأسرة النواة الصلبة التي يقوم عليها بناء المجتمع السعودي. فالترابط الأسري ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل هو ممارسة يومية تمثل شبكة أمان نفسيّ وعاطفيّ حقيقية. تمتاز الأسر السعودية، في غالبيتها، بكونها ممتدة ومترابطة، حيث يوفر هذا الهيكل دعمًا نفسيًا فطريًا للفرد منذ نعومة أظفاره. في أوقات الشدة والأزمات، يكون الأهل والإخوة والأقارب هم الملاذ الأول، مما يخفف من وطأة الصدمات ويقلل من مشاعر الوحدة والقلق. هذا الدعم الأسري المتأصل يمنح الفرد شعورًا قويًا بالانتماء والأمان، وهما عنصران أساسيان في بناء شخصية متوازنة وقادرة على مواجهة ضغوطات الحياة.
دور العلاقات الاجتماعية: دائرة الدعم الموسعة
لا يقتصر الدعم الاجتماعي في المملكة على النطاق الأسري الضيق، بل يمتد ليشمل دائرة أوسع من الأصدقاء والجيران وأفراد المجتمع. وتلعب "المجالس" أو "الديوانيات" دورًا محوريًا في هذا السياق، فهي لا تعد مجرد أماكن للقاء والسمر، بل هي منصات حيوية للتواصل الاجتماعي، وتبادل الأخبار والآراء، وتقديم المشورة، وحل المشكلات بشكل جماعي. هذه التجمعات الدورية تكسر روتين العزلة الذي قد تفرضه الحياة المعاصرة، وتضمن بقاء الأفراد على اتصال حقيقي مع بعضهم البعض، مما يعزز الشعور بالانتماء المجتمعي ويحد من انتشار الاضطرابات النفسية المرتبطة بالانعزال الاجتماعي مثل الاكتئاب والقلق.
عادات حميدة ترسّخ الروابط وتعزز العافية النفسية
تزخر الثقافة السعودية بالعديد من العادات والتقاليد الحميدة التي تعمل كآليات فعالة لتقوية الوشائج الاجتماعية، وتترك أثرًا إيجابيًا مباشرًا على الصحة النفسية. ومن أبرز هذه العادات:
الزيارات العائلية والمناسبات الاجتماعية: تُعد المناسبات كالأعياد، وحفلات الزواج، وحتى لقاءات نهاية الأسبوع، فرصًا ذهبية لتجديد الروابط وتأكيد المحبة. فمشاهدة الأهل والأحباب وتبادل الأحاديث والضحكات تساهم بشكل كبير في تحسين المزاج، وتفريغ الشحنات السلبية، وتعزيز الإحساس بالسعادة والرضا. كما أن هذه اللقاءات ترسخ لدى الأجيال الجديدة أهمية صلة الرحم والتواصل.
الكرم والضيافة: لا يُنظر إلى الكرم وحسن الضيافة في المجتمع السعودي على أنهما مجرد قواعد للسلوك الاجتماعي، بل هما تعبير صادق عن التقدير والاحترام والاهتمام بالآخر. إن فتح الأبواب للضيوف وتقديم واجب الضيافة يخلق شعورًا بالترحاب والقبول لدى الزائر، ويعزز في الوقت ذاته إحساس المضيف بالكفاءة الاجتماعية والعطاء، وكلاهما محفزات قوية للرضا عن الذات.
"الفزعة" والتكافل الاجتماعي: من أنبل العادات المتجذرة في الثقافة السعودية هي "الفزعة"، والتي تعني المسارعة إلى نجدة ومساعدة من يحتاج العون، سواء كان قريبًا أو جارًا أو حتى غريبًا. إن الإيمان بوجود هذا الدعم المجتمعي غير المشروط يمنح الفرد طمأنينة نفسية هائلة. فمجرد إدراكه بأنه لن يُترك وحيدًا في مواجهة الصعاب، سواء كانت مادية أو معنوية، يخفف من مستويات التوتر والقلق بشكل كبير ويبني مجتمعًا أكثر مرونة وتكاتفًا.
التأثير الإيجابي المتكامل على الصحة النفسية
إن هذا النسيج المترابط من العلاقات الأسرية القوية، والشبكات الاجتماعية الفاعلة، والعادات الحميدة، يخلق بيئة داعمة تساهم بشكل مباشر في تعزيز الصحة النفسية للمجتمع السعودي. فالشعور القوي بالهوية والانتماء، وتوافر الدعم العاطفي والعملي، ووجود متنفس اجتماعي دائم، كلها عوامل تعمل معًا لزيادة القدرة على التكيف مع الضغوط، والحد من خطر الإصابة بالأمراض النفسية، وتعزيز الشعور العام بجودة الحياة.
في الختام، وبينما تتزايد أهمية الخدمات الصحية النفسية المتخصصة التي توفرها المملكة ضمن رؤيتها الطموحة 2030، يبقى رأس المال الاجتماعي والثقافي للمجتمع السعودي ثروة حقيقية ومورداً لا ينضب للعافية النفسية. إن الحفاظ على هذه الروابط الأسرية الوثيقة، وتشجيع العادات الاجتماعية الإيجابية، يمثلان استثمارًا حقيقيًا في صحة وسلامة المجتمع بأكمله، ليظل مجتمعًا متراحمًا، متكاتفًا، ومفعمًا بالحياة.